فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)}
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
أنه تعالى أخبر عن السفينة أنها استوت على الجودي، فهناك قد خرج نوح وقومه من السفينة لا محالة، ثم إنهم نزلوا من ذلك الجبل إلى الأرض فقوله: {اهبط} يحتمل أن يكون أمرًا بالخروج من السفينة إلى أرض الجبل وأن يكون أمرًا بالهبوط من الجبل إلى الأرض المستوية.
المسألة الثانية:
أنه تعالى وعده عند الخروج بالسلامة أولًا، ثم بالبركة ثانيًا، أما الوعد بالسلامة فيحتمل وجهين: الأول: أنه تعالى أخبر في الآية المتقدمة أن نوحًا عليه السلام تاب عن زلته وتضرع إلى الله تعالى بقوله: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الخاسرين} [هود: 47] وهذا التضرع هو عين التضرع الذي حكاه الله تعالى عن آدم عليه السلام عند توبته من زلته وهو قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23] فكان نوح عليه السلام محتاجًا إلى أن بشره الله تعالى بالسلامة من التهديد والوعيد فلما قيل له: {يا نوح اهبط بسلام مّنَّا} حصل له الأمن من جميع المكاره المتعلقة بالدين.
والثاني أن ذلك الغرق لما كان عامًا في جميع الأرض فعند ما خرج نوح عليه السلام من السفينة علم أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان، فكان كالخائف في أنه كيف يعيش وكيف يدفع جميع الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب، فلما قال الله تعالى: {اهبط بسلام مّنَّا} زال عنه ذلك الخوف، لأن ذلك يدل على حصول السلامة من الآفات ولا يكون ذلك إلا مع الأمن وسعة الرزق، ثم إنه تعالى لما وعده بالسلامة أردفه بأن وعده بالبركة هي عبارة عن الدوام والبقاء، والثبات، ونيل الأمل، ومنه بروك الإبل، ومنه البركة لثبوت الماء فيها، ومنه تبارك وتعالى، أي ثبت تعظيمه، ثم اختلف المفسرون في تفسير هذا الثبات والبقاء.
فالقول الأول: أنه تعالى صير نوحًا أبا البشر، لأن جميع من بقي كانوا من نسله وعند هذا قال هذا القائل: إنه لما خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه ممن لم يكن من ذريته ولم يحصل النسل إلا من ذريته، فالخلق كلهم من نسله وذريته، وقال آخرون: لم يكن في سفينة نوح عليه السلام إلا من كان من نسله وذريته، وعلى التقديرين فالخلق كلهم إنما تولدوا منه ومن أولاده، والدليل عليه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين} [الصافات: 77] فثبت أن نوحًا عليه السلام كان آدم الأصغر، فهذا هو المراد من البركات التي وعده الله بها.
والقول الثاني: أنه تعالى لما وعده بالسلامة من الآفات، وعده بأن موجبات السلامة، والراحة والفراغة يكون في التزايد والثبات والاستقرار، ثم إنه تعالى لما شرفه بالسلامة والبركة شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال: {وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ} واختلفوا في المراد منه على ثلاثة أقوال: منهم من حمله على أولئك الأقوام الذين نجوا معه وجعلهم أممًا وجماعات، لأنه ما كان في ذلك الوقت في جميع الأرض أحد من البشر إلا هم، فلهذا السبب جعلهم أممًا، ومنهم من قال: بل المراد ممن معك نسلًا وتولدًا قالوا: ودليل ذلك أنه ما كان معه إلا الذين آمنوا وقد حكم الله تعالى عليهم بالقلة في قوله تعالى: {وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40] ومنهم من قال: المراد من ذلك مجموع الحاضرين مع الذين سيولدون بعد ذلك، والمختار هو القول الثاني: ومن في قوله: {مّمَّن مَّعَكَ} لابتداء الغاية، والمعنى: وعلى أمم ناشئة من الذين معك.
واعلم أنه تعالى جعل تلك الأمم الناشئة من الذين معه على قسمين: أحدهما: الذين عطفهم على نوح في وصول سلام الله وبركاته إليهم وهم أهل الإيمان.
والثاني: أمم وصفهم بأنه تعالى سيمتعهم مدة في الدنيا ثم في الآخرة يمسهم عذاب أليم، فحكم تعالى بأن الأمم الناشئة من الذين كانوا مع نوح عليه السلام لابد وأن ينقسموا إلى مؤمن وإلى كافر.
قال المفسرون: دخل في تلك السلامة كل مؤمن وكل مؤمنة إلى يوم القيامة، ودخل في ذلك المتاع وفي ذلك العذاب كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة، ثم قال أهل التحقيق: إنه تعالى إنما عظم شأن نوح بإيصال السلامة والبركات منه إليه، لأنه قال: {بسلام مّنَّا} وهدا يدل على أن الصديقين لا يفرحون بالنعمة من حيث إنها نعمة ولكنهم إنما يفرحون بالنعمة من حيث إنها من الحق، وفي التحقيق يكون فرحهم بالحق وطلبهم للحق وتوجههم إلى الحق، وهذا مقام شريف لا يعرفه إلا خواص الله تعالى، فإن الفرح بالسلامة وبالبركة من حيث هما سلامة وبركة غير، والفرح بالسلامة والبركة من حيث إنهما من الحق غير، والأول: نصيب عامة الخلق، والثاني: نصيب المقربين، ولهذا السبب قال بعضهم: من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني، ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول، وأما أهل العقاب فقد قال في شرح أحوالهم: {وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} فحكم بأنه تعالى يعطيهم نصيبًا من متاع الدنيا فدل ذلك على خساسة الدنيا، فإنه تعالى لما ذكر أحوال المؤمنين لم يذكر ألبتة أنه يعطيهم الدنيا أم لا.
ولما ذكر أحوال الكافرين ذكر أنه يعطيهم الدنيا، وهذا تنبيه عظيم على خساسة السعادات الجسمانية والترغيب في المقامات الروحانية. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}
سَمَّى ابْنَهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ، أَوْصَى لِأَهْلِهِ بِثُلُثِ مَالِهِ أَنَّهُ عَلَى مَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ ابْنًا كَانَ، أَوْ زَوْجَةً، أَوْ أَخًا، أَوْ أَجْنَبِيًّا وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجَةِ خَاصَّةً وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ فَجَعَلَهُ لِجَمِيعِ مَنْ تَضَمَّنَهُ مَنْزِلُهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ وَقَوْلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} فَسَمَّى جَمِيعَ مَنْ ضَمَّهُ مَنْزِلُهُ وَسَفِينَتُهُ مِنْ أَهْلِهِ وَقَوْلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي يَعْنِي مِنْ أَهْلِي الَّذِينَ وَعَدْتَنِي أَنْ تُنْجِيَهُمْ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك الَّذِينَ وَعَدْتُك أَنْ أُنْجِيَهُمْ قَوْله تَعَالَى: {إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} قِيلَ فِيهِ: مَعْنَاهُ ذُو عَمَلٍ غَيْرِ صَالِحٍ فَجَاءَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ كَمَا قَالَتْ الْخَنْسَاءُ:
تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حَتَّى إذَا ** ادَّكَرَتْ فَإِنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ

تَعْنِي: ذَاتَ إقْبَالٍ وَإِدْبَارٍ، أَوْ مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ قَالَ: سُؤَالُك هَذَا عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ وَقَرَأَ الكسائي: {إنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ} عَلَى الْفِعْلِ وَنَصْبِ غَيْرٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ أَنَّهُ كَانَ ابْنَهُ لِصُلْبِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} وَقَالَ: {إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك} يَعْنِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِك وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ابْنَهُ لِصُلْبِهِ وَكَانَ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ وَقَالَ الْحَسَنُ: وَكَانَ مُنَافِقًا يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُسِرُّ الْكُفْرَ وَقِيلَ: إنَّهُ كَانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ.
وَإِنَّمَا كَانَ نُوحٌ يَدْعُوهُ إلَى الرُّكُوبِ مَعَ نَهْيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إيَّاهُ أَنْ يَرْكَبَ فِيهَا كَافِرٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُنَافِقُ بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ، وَقِيلَ: إنَّهُ دَعَاهُ عَلَى شَرِيطَةِ الْإِيمَانِ كَأَنَّهُ قَالَ آمِنْ وَارْكَبْ مَعَنَا. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى} فإنك قد وعدتني، أن تنجيهم من العذاب، {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق} يعني: أنت الصَّادق في وعدك، {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} يعني: أعدل العادلين: {قَالَ يَاءادَمُ نُوحٍ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الذي وعدتك أن أنجيهم.
وروي عن الحسن، أنه قال: إنه تخلف، لأنه لم يكن ابن نوح.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: كنت عند الحسن، قال: ونادى نوح ابنه، فقال: لعمر الله ما هو ابنه، قلت: يا أبا سعيد، يقول الله تعالى: {ونادى نُوحٌ ابنه} وأنت تقول: هو ليس بابنه؟ قال: أفرأيت قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} قلت: إنه ليس من أهلك، الذي وعدتك أن أنجيهم.
ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه. قال: إنَّ أهل الكتاب يكذبون. وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، أنه ابنه غير أنه خالفه في العمل. وقال بعض الحكماء: إن الابن إذا لم يفعل ما يفعل الأب انقطع عنه، والأمة إذا لم يفعلوا ما فعل نبيُّهم، أخاف أن ينقطعوا عنه.
ثمَّ قال: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} قرأ الكسائي: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح}، بكسر الميم ونصب الراء.
وروت أُمُّ سَلَمَةَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ هكذا، ومعناه: إن ابنك عمِلَ عَمَلَ المشركين، ولم يعمل عمل المؤمنين.
وقرأ الباقون: {عَمَلٌ غَيْرُ}، بالتنوين والضم، وضم الراء، ومعناه: إنَّ سؤالك ودعاءك لابنك الكافر عَمَلٌ غير صالح، {فَلاَ تَسْأَلْنى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} يعني: بيانًا.
وقرأ أهل الكوفة: فلا تسألن بتخفيف النون بغير ياء، لأن الكسر يقوم مقام الياء.
وروي عن أبي عبيدة، أنه قال: رأيت في مصحف عثمان هكذا.
وقرأ أبو عمرو: {فَلاَ تَسْأَلْنى} بإثبات الياء بغير تشديد، وهو الأصل في اللغة.
وقرأ ابن كثير: {فَلاَ تَسْأَلْنى} بنصب النون والتشديد بغير ياء، ويكون معناه: التأكيد في النهي.
وقرأ ابن عامر، ونافع في رواية قالون: {فَلاَ تَسْأَلْنى} بالكسر بغير ياء مع التشديد.
وقرأ نافع في رواية ورش: {فَلاَ تَسْأَلْنى} بالياء مع التشديد.
ثم قال: {إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} أي أنهاك أن تكون من الجاهلين.
يعني: من يترك أمري.
ويقال: من المكذبين بقدر الله تعالى.
{قَالَ} نوح عليه السلام: {رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ}، يعني: اعتصم وامتنع بك: {أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ} يعني: احفظني بعد اليوم، لكيلا أسألك ما ليس به علم: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى} يعني: إن لم تغفر لي، ولم ترحمني، {أَكُن مّنَ الخاسرين}.
قوله تعالى: {قِيلَ يا نوح نُوحٌ اهبط بسلام مّنَّا} يعني: انزل من السّفينة مسلّمًا من عذابنا، وغرقنا.
ويقال: بسلام عليك، كما قال: {سلام على نُوحٍ في العالمين} [الصافات: 79]، {وبركات} يعني: وسعادات: {عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ} يعني: الذين كانوا في السفينة معه، {وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ} يعني: من كان من أهل الشّقاء سنمتِّعهم في الدنيا: {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} يَصِيبهم في الآخرة، وقَالَ مقاتل: اهبط من السفينة بسلام منا.
فسلمه الله ومن معه من الغرق وبركات عليك وعلى أمم ممن معك.
يعنى بالبركة إنهم توالدوا وكثروا: {وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ}، وهم قوم هود، وشعيب، ولوط.
وقال محمد بن كعب القرظي في قوله: {اهبط بسلام مّنَّا وبركات عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال: دخل في السلام والبركة، كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، ودخل في المتاع والعذاب، كل كافر إلى يوم القيامة.
ويقال: إنهم لمَّا خرجوا من السفينة، بنوا مدينة وسموها: مدينة ثمانين، ويقال: ماتوا كلهم، ولم يكن منهم نسل، إلا من أولاد نوح، وكان له ثلاثة بنين سام وحام ويافث، سوى الذي غرق كما قال في موضع آخر: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين} [الصافات: 77]. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {ونادى نوحٌ ربه فقال رَبِّ إنَّ ابني من أهلي}
وإنما قال: {من أهلي} لأن الله تعالى وعده أن ينجي أهله معه.
{وإن وعدك الحق} يحتمل وجهين:
أحدهما الذي يحق فلا يخلف.
الثاني: الذي يلزم كلزوم الحق.
{وأنت أحكم الحاكمين} يعني بالحق: فاحتمل هذا من نوح أحد أمرين: إما أن يكون قبل علمه بغرق ابنه فسأل الله تعالى له النجاة، وإما أن يكون بعد علمه بغرقه فسأل الله تعالى له الرحمة.
قوله عز وجل: {قال يا نوح إنه ليس من أهلك} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه ولد على فراشه ولم يكن ابنه وكان لغيره رشدة، قاله الحسن ومجاهد.
الثاني: أنه ابن امرأته.
الثالث: أنه كان ابنه، قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك. قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط.
وقيل إن اسمه كان كنعان، وقيل بل كان اسمه يام.
قال الحسن: وكان منافقًا ولذلك استعجل نوح أن يناديه فعلى هذا يكون في تأويل قوله تعالى: {إنه ليس من أهلك} وجهان:
أحدهما: ليس من أهل دينك وولايتك، وهو قول الجمهور.
الثاني: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك، قاله سعيد بن جبير.
{إنه عملٌ غير صالحٍ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن مسألتك إياي أن أنجيه عمل غير صالح، قاله قتادة وإبراهيم وهو تأويل من قرأ عملٌ غير صالح بالتنوين.
والثاني: معناه أن ابنك الذي سألتني أن أنجيه هو عملٌ غير صالحٍ، أي أنه لغير رشدة، قاله الحسن.
والثالث: أنه عملٌ غير صالحٍ، قاله ابن عباس، وهو تأويل من لمن ينون.
{فلا تسألن ما ليس لك به علمٌ} يحتمل وجهين:
أحدهما: فيما نسبته إلى نفسك وليس منك.
الثاني: في دخوله في جملة من وعدتك بإنجائهم من أهلك وليس منهم.
{إني أعظُك أن تكون من الجاهلين} يحتمل وجهين:
أحدهما: من الجاهلين بنسبك.
الثاني: من الجاهلين بوعدي لك.
وفي قوله: {إني أعظك} تأويلان:
أحدهما: معناه إني رافعك أن تكون من الجاهلين.
الثاني: معناه أني أحذرك ومنه قوله تعالى: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدًا} أي يحذرّكم. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}
هذه جملة معطوفة على التي قبلها دون ترتيب، وذلك أن هذه القصة كانت في أول ما ركب نوح في السفينة؛ ويظهر من كلام الطبري أن ذلك كان بعد غرق الابن، وهو محتمل، والأول أليق.
وهذه الآية احتجاج من نوح عليه السلام، وذلك أن الله أمره بحمل أهله وابنه من أهله فينبغي أن يحمل، فأظهر الله له أن المراد من آمن من الأهل، ثم حسن المخاطبة بقوله: {وإن وعدك الحق}، وبقوله: {وأنت أحكم الحاكمين}، فإن هذه الأقوال معينة في حجته، وهذه الآية تقتضي أن نوحًا عليه السلام ظن أن ابنه مؤمن، وذلك أشد الاحتمالين.
وقوله تعالى: {قال يا نوح} الآية، المعنى قال الله تعالى: يا نوح، وقالت فرقة: المراد أنه ليس بولد لك، وزعمت أنه كان لغية وأن امرأته الكافرة خانته فيه، هذا قول الحسن وابن سيرين وعبيد بن عمير: وقال بزي إنما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش من أجل ابن نوح، وحلف الحسن أنه ليس بابنه، وحلف عكرمة والضحاك أنه ابنه.
قال القاضي أبو محمد: عول الحسن على قوله تعالى: {إنه ليس من أهلك}، وعول الضحاك وعكرمة على قوله تعالى: {ونادى نوح ابنه} [هود: 42].